الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***
إذا رضيت علي بنو قشير على أنه إنما تعدى رضي بعلى، مع أنه يتعدى بعن، لحمله على ضده وهو سخط، فإنه يقال: سخط عليه. وهم قد يحملون الضد على الضد، كما يحملون النظير على النظير. وهذا التوجيه للكسائي. قال ابن جني في الخصائص: ومما جاء من الحروف في موضع غيره على نحو مما ذكرنا قوله: إذا رضيت علي بنو قشير *** لعمر الله أعجبني رضاها أراد: عني، وجه ذلك، أنها إذا رضيت عنه: أحبته، وأقبلت عليه، ولذلك استعمل على بمعنى عن. وكان أبو علي يستحسن قول الكسائي في هذا، لأنه لما كان رضيت ضد سخطت، عدى رضيت بعلى، حملاً للشيء على نقيضه، كما يحمل على نظيره. وقد سلك سيبويه هذه الطريق في المصادر كثيراً، فقال: قالوا كذا كما قالوا كذا، وأحدهما ضد الآخر. ونحو منه قول الآخر: إذا ما امرؤ ولى علي بوده *** وأدبر لم يصدر بإدباره ودي أي: ولى عني، ووجهه انه إذا ولى عنه بوده، فقد ضن عليه به، وبخل، فأجرى التولي بالود مجرى الضنانة والبخل، ومجرى السخط، لأنه توليه عنه بوده لا يكون إلا عن سخط عليه. وأما قول الآخر: شدوا المطي على دليل دائب *** من أهل كاظمة بسيف الأبحر فقالوا معناه: بدليل. وهو عندي أنا على حذف المضاف، أي: شدوا المطي على دلالة دليل، فحذف المضاف، وقوي حذفه هنا شيئاً، لأن لفظ الدليل يدل على الدلالة، وهو كقولك: سر على اسم الله. وعلى هذه عندي حال من الضمير في سر وشدوا، وليست بواصلة لهذين الفعلين، ولكنها معلقة بمحذوف، حتى كأنه قال: سر معتمداً على اسم الله. ففي الظرف إذن ضمير لتعلقه بالمحذوف. انتهى. وقد نقل ابن الأنباري أيضاً في مسائل الخلاف هذا التوجيه عن الكسائي. وكذا ابن هشام نقله عنه في المغني، وقال: ويحتمل أن يكون ضمن رضي معنى عطف. وقد عد هذا ابن عصفور من الضرائر الشعرية، فقال: ومنه إنابة حرف مكان حرف. أورد هذا البيت وغيره. ولم أره لغيره. كيف وقد ورد في القرآن والحديث وغيرهما. وغاية ما قيل انه لا يطرد في كل موضع. وقد أفرد له ابن جني باباً في الخصائص فلا بأس بإيراد شيء منه. قال في باب استعمال الحروف بعضها مكان بعض: هذا باب يتلقاه الناس مغسولاً وما أبعد الصواب عنه، وذلك أنهم يقولون: إن إلى تكون بمعنى مع، ويحتجون بقوله تعالى: {من أنصاري إلى الله . ويقولون: في تكون بمعنى على، كقوله تعالى: {ولأصلبنكم في جذوع النخل . وغير ذلك. ولسنا ندفع أن يكون ذلك كما قالوا، لكنا نقول: إنه يكون بمعناه في موضع دون موضع، على حسب الحال الداعية إليه. فأما في كل موضع فلا. ألا ترى أنك إذا أخذت بظاهر هذا القول لزمك أن تقول عليه: سرت إلى زيد، وأنت تريد معه، وأن تقول: زيد في الفرس وأنت تريد عليه، وزيد في عمرو، وأنت تريد عليه العداوة، وأن تقول: رويت الحديث بزيد، وأنت تريد عنه، ونحو ذلك مما يطول ويتفاحش، ولكن نضع في ذلك رسماً يعمل عليه. اعلم أن الفعل إذا كان بمعنى فعل آخر، وكان أحدهما يتعدى بحرف، والآخر بآخر، فإن العرب قد تتسع فتوقع أحد الحرفين موقع صاحبه، إيذاناً بأن هذا الفعل في معنى ذلك الآخر، فلذلك جيء معه بالحرف المعتاد، مع ما هو في معناه، وذلك كقوله تعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم . وأنت لا تقول: رفثت إلى المرأة، وإنما تقول: رفثت بها، ومعها، لكنه لما كان الرفث هنا في معنى الإفضاء، وكنت تعدي أفضيت بإلى جئت بإلى مع الرفث، إيذاناً بأنه بمعناه، كما صححوا عور وحول لما كان في معنى اعور واحول، وكما جاؤوا بالمصدر فأجروه على غير فعله، لما كان في معناه، نحو قوله: وإن شئتم تعاودنا عوادا لما كان التعاود أن يعاود بعضهم بعضاً. وكذلك قوله تعالى: {من أنصاري إلى الله ، أي: مع الله. وأنت لا تقول: سرت إلى زيد، أي: معه، لكنه إنما جاء لما كان معناه: من ينضاف في نصرتي إلى الله؟ إلى أن قال: ووجدت في اللغة من هذا الفن شيئاً كثيراُ، لا يكاد يحاط به، ولعله لو جمع أكثره، لجاء كتاباً ضخماً. وقد عرفت طريقه، فإذا مر بك شيء منه، فتقبله وأنس به، فإنه فصل من العربية لطيف حسن، يدعو إلى الأنس بها والفقاهة فيها. وفيه أيضاً موضع يشهد على من أنكر أن يكون في اللغة لفظان بمعنىً واحد، حتى تكلف لذلك أن يوجد فرقاً بين قعد وجلس، وذراع وساعد. ألا ترى أنه لما كان رفث بالمرأة، بمعنى أفضى إليها، جاز أن يتبع الرفث الحرف الذي بابه الإفضاء، وهو إلى. وكذلك لما كان: هل لك في كذا. بمعنى أدعوك إليه، جاز أن يقال: هل لك إلى أن تزكى، كما يقال: أدعوك إلى أن تزكى. انتهى كلامه. وقال ابن السيد البطليوسي في شرح أدب الكاتب عند باب دخول بعض الصفات مكان بعض: هذا الباب أجازه أكثر الكوفيين، ومنع منه أكثر البصريين. وفي القولين جميعاً نظر؛ لأن من أجازه دون شرط، لزمه أن يجيز: سرت إلى زيد، وهو يريد: مع زيد. ثم مثل بنحو ما مثل به ابن جني، وقال: وهذه المسائل لا يجيزها من يجيز إبدال الحروف. ومن منع من ذلك على الإطلاق لزمه أن يتعسف في التأويل لكثير مما ورد في هذا الباب، لأن في هذا الباب أشياء كثيرة، يتعذر تأويلها على غير وجه البدل، ولا يمكن المنكرين لهذا أن يقولوا: إن هذا من ضرورة الشعر. لأن هذا النوع قد كثر وشاع، ولم يخص الشعر دون الكلام. فإذا لم يصح إنكارهم له، وكان المجيزون له لا يجيزونه في كل موضع، ثبت بهذا أنه موقوف على السماع، غير جائز القياس عليه، ووجب أن يطلب له وجه من التأويل يزيل الشناعة عنه، ويعرف كيف المأخذ فيما يرد منه. ولم أر فيه للبصريين تأويلاً أحسن من قول ذكره ابن جني في كتاب الخصائص وأنا أورده في هذا الموضع، وأعضده بما يشاكله من الاحتجاج. ثم نقل كلام ابن جني، وزاد عليه أمثلة وشرحها، وأطال الكلام وأطاب. وكان ينبغي لنا أن نذكر هذا الفصل عند أول شاهد من حروف الجر لكننا ما تذكرناه إلا هنا. والبيت من قصيدة للقحيف العقيلي، يمدح بها حكيم بن المسيب القشيري. وبعده: ولا تنبو سيوف بني قشير *** ولا تمضي الأسنة في صفاها واقتصر عليهما أبو زيد في نوادره. ومنها: تنضيت القلاص إلى حكيم *** خوارج من تبالة ومناها فما رجعت بخائبة ركاب *** حكيم بن المسيب منتهاها وأوردهما ابن الأعرابي في نوادره. وقوله: إذا رضيت...إلخ، إذا شرطية، وجوابها: أعجبني رضاها، واللام في: لعمر الله لام الابتداء، وعمر الله: مبتدأ، وخبره محذوف، أي: قسمي، وجواب القسم محذوف مدلول عليه بجواب إذا، كما تقدم في الشرط، من الضابط في اجتماع الشرط والقسم. وقشير بالتصغير، هو قشير بن كعب بن ربيعة بتن عامر بن صعصعة. يقول: إذا رضيت عني بنو قشير سرني رضاها. وضمير رضاها عائد إلى بنو قشير، وأنثه باعتبار القبيلة. وقوله: ولا تنبو سيوف...إلخ، نبا السيف عن الضريبة، إذا كل، ولم يقطع. ولا تمضي: لا تنفذ. والأسنة: جمع سنان، وهو حديدة الرمح التي يطعن عليها. والصفا: واحده صفاة، وهي الصخرة الملساء الصماء، لا يؤثر فيها الحديد. يريد أن سيوفهم تؤثر في غيرهم وأسنة غيرهم لا تؤثر فيه، فإنهم كالصخرة الملساء. وقوله: تنضيت القلاص...إلخ، أي: جعلتها أنضاءً: جمع نضوة بالكسر، أي: المهزولة من شدة الأسفار. يقال: أنضيت البعير وتنضيته، أي: أهزلته. والقلاص، بالكسر: جمع قلوص بالفتح، وهي الناقة الشابة. وحكيم هو ابن المسيب. وخوارج: جمع خارجة. وتبالة، بفتح المثناة الفوقية بعدها موحدة: بلدة صغيرة من اليمن. ومنى: بكسر الميم، قال البكري في معجم ما استعجم: ومنىً موضع آخر من بلاد بني عامر، ليس منى مكة، وهو محدد في رسم ضرية، قرب المدينة المنورة. وقوله: فما رجعت بخائبة...إلخ، أورده ابن هشام في المغني على أن الباء تزاد في الحال المنفي عاملها. أي: فما رجعت خائبة. وخرجه أبو حيان على أن التقدير: فما رجعت بحاجة خائبة، فالجار والمجرور هو الحال، وركاب فاعل رجعت، وهي الإبل التي يسار عليها، الواحدة راحلة، ولا واحد لها من لفظها. والخيبة: حرمان المطلوب. يعني: أن الإبل التي انتهى سيرها إلى هذا الممدوح، لم ترجع خائبة، بل رجعت بنيل المطلوب. وحكيم: مبتدأ، ومنتهاها: خبره، أي: منتهى سيرها، والجملة صفة ركاب. قال السيوطي في شرح أبيات المغني: والمسيب هذا بالفتح لا غير، وكذا كل مسيب، إلا والد سعيد بن المسيب، فإنه فيه وجهين: الفتح والكسر. وهذا البيت لم يعزه أحد من شراح المغني إلى أحد، مع أن البيت الشاهد نسبه السيوطي إلى القحيف، ولم يقف على أن هذا البيت من تلك القصيدة. والقحيف العقيلي شاعر إسلامي، ذكره الجمحي في الطبقة العاشرة من شعراء الإسلام. وهو شاعر مقل، شبب بخرقاء محبوبة ذي الرمة. وهذا نسبه: القحيف بن خمير ين سليم الندى بن عبد الله بن عوف بن حزن بن معاوية بن خفاجة بن عمرو بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. كذا في الجمهرة والعباب للصاغاني. والقحيف بضم القاف وفتح المهملة. وخمير بضم المعجمة وفتح الميم. وسليم بضم السين وفتح اللام. وأضيف إلى الندى لاشتهاره بالكرم. وقال الصاغاني: رأيت بخط محمد بن حبيب في أول ديوان شعر القحيف البدي بالباء الموحدة وتشديد الياء. وعقيل: بالتصغير: هو أخو قشير، المنسوب إليه حكيم بن المسيب. وأنشد بعده: وهو السادس والعشرون بعد الثمانمائة: رعته أشهراً وخلا عليها تمامه: فطار الني فيها واستغارا على أن على فيه ليست بمعنى اللام، كما قاله الكوفيون، وابن قتيبة في أدب الكاتب، لأنه يقال: خلا له الشيء، بمعنى تفرغ له. قال ابن السيد: كان الوجه أن يقال: وخلا لها، ولكن قوله: وخلا عليها، يفيد ما يفيده قوله: إنه وقف عليها. فخلا ضمن معنى وقف، وحبس عليها. وقول الشارح في الجواب عنه: أي على مذاقها، كأنه ملك مذاقها، وتسلط عليه، فإنه تحريف منه لكلمة خلا المعجمة الخاء، بحلا المهملة، يجعله من الحلاوة، فأجاب بتقدير مضاف بعد على، وتضمين الفعل. وليست الرواية كما توهمه. والبيت من قصيدة للراعي مدح بها سعيد بن عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، عدتها سبعة وخمسون بيتاً. وقبله: وذات أثارة أكلت عليه *** نباتاً في أكمته قفارا جمادياً تحن المزن فيه *** كما فجرت في الحرث الدبارا رعته أشهراً وخلا عليه ....... .....البيت قوله: وذات أثارة...إلخ، قال الجواليقي في شرح أدب الكاتب الواو واو رب، أي: رب ناقة ذات سمن. والأثارة بفتح الهمزة والمثلثة: شحم متصل بشحم آخر، ويقال: هي بقية من الشحم العتيق. يقال: سمنت الناقة على أثارة، أي: على بقية شحم. وقوله: أكلت عليها نباتاً، أي: على هذه الأثارة. وفي أكمته، أي: في غلفه، جمع كمام، وهو جمع كم بكسر الكاف وتشديد الميم. والكم: غطاء النور وغلافه، فأكمة جمع الجمع. وقوله: قفاراً، أي: خالياً من الناس، فرعته وحدها. وقفار وصف نبات. قال صاحب المصباح: القفر: الخلاء، والمفازة. ويقولون: أرض قفار على توهم جمع المواضع لسعتها. ودار قفر وقفار كذلك. والمعنى خالية من الناس. وقوله: جمادياً وصف آخر لنبات، منسوب إلى جمادى بعد حذف ألفه الخامسة، أي: نبت في جمادى. وجملة تحن..إلخ: صفة لجمادي، أي: تعطف عليه. والمزن: جمع مزنة، وهي السحابة. وقوله: كما فجرت في موضع المفعول المطلق، أي: وفجرت المزن الأرض تفجيراً كما فجرت. والتفجير: التشقيق، يقال: فجر الماء بالتخفيف، أي: شق الأرض، ففتح له طريقاً. والتشديد للمبالغة. والحرث: مصدر حرث الأرض، إذا أثارها للزراعة بالمحراث. والدبار، بكسر الدال، قال صاحب المصباح: الدبرة بالفتح، والدبارة بالكسر: المشارة في المزرعة، والجمع دبر ودبار. وقوله: رعته، أي: رعت الناقة ذلك النبات أشهراً. وتخلت به: لم يرعه غيرها. وطار الني، أي: ارتفع الشحم. واستغار، أي: هبط فيها. والني: مصدر نويت الناقة، أي: سمنت، تنوى نواية ونياً، فهي ناوية، وجمل ناو، وجمال نواء، مثل جائع وجياع. وقال ابن السيد في شرحه: وصف ناقة، فقال: رعت هذا الموضع أشهر الربيع، وخلا لها، فلم يكن لها فيه منازع، فسمنت. والني: الشحم. ومعنى طار: أسرع ظهوره. وقال ابن قتيبة في كتاب المعاني: استغار وغار واحد، كأنه قال: ظهر الني واستتر. ورواه الباهلي: فسار وقال: معنى سار: ارتفع. واستغار: انهبط، من قولك: غار يغور. وقال الحربي: يقال استغار الجرح، إذا تورم. وأنشد: فطار الني فيها واستغارا وذكر أنه يروى استعار بالعين غير معجمة، أي: ذهب يميناً وشمالاً، من قولهم: عار الفرس، إذا أفلت. وترجمة الراعي تقدمت في الشاهد الثالث والثمانين بعد المائة. وأنشد بعده: وهو من شواهد س: إن الكريم وأبيك يعتمل *** إن لم يجد يوماً على من يتكل على أن على لبست زائدة، وإنما هي مقدمة من تأخير، والأصل: إن لم يجد يوماً من يتكل عليه، فقدمت على على من فانتصب الضمير بالفعل ثم حذف. وهذا تخريج ابن الشجري في أماليه، أورده نظيراً لقوله تعالى: يدعو لمن ضره أقرب من نفعه، قال: إن الأصل يدعو من لضره أقرب، فقدمت لام التوكيد، كما قدمت على في قول هذا الراجز، مع أنها عاملة، وأراد: من يتكل عليه. وهذا تقديم قبيح سوغته الضرورة. انتهى. وهذا تعسف، إذ لم يعهد تقديم الجار على غير المجرور، كما لم يعهد تقديم الجازم على غير المجزوم، وإنما المعهود تقديمهما معاً. ومراد الشارح الرد على جميع تخاريجه، وهي سبعة: الأول لسيبويه: أن يكون الأصل: على من يتكل عليه، فحذف العائد مع الجار. وعلى الأولى غير زائدة. وهذا نصه: وقد يجوز أن تقول: بمن تمرر أمرر، وعلى من تنزل أنزل، إذا أردت معنى عليه وبه. وليس بحد الكلام، وفيه ضعف. ومثل ذلك قول بعض الأعراب: إن الكرم وأبيك البيتين يريد يتكل عليه. ولكنه حذف. وهذا قول الخليل. انتهى. قال الزجاجي في أماليه الوسطى: زعم بعض الناس أن سيبويه غلط فيه، وتقديره عند سيبويه أن يكون يجد متعدياً إلى من بعلى، وليس وجدت مما يتعدى بحرف خفض، فلهذا خالفوه. قال المازني: تقديره صحيح جيد، لأن الفعل المتعدي، قد يجوز أن لا يعدى، فكأنه قصد ذلك، ثم بدا له، فعداه بعلى، كما قال الله تعالى: {عسى أن يكون ردف لكم وإنما جاز أن يحذف عليه من قوله إن لم يجد من يتكل عليه لذكرها في أول الكلام. انتهى. الثاني لابن جني، قال: أراد إن لم يجد يوماً من يتكل عليه، فحذف عليه، وزاد على قبل من عوضاً. وجوز في عن أيضاً كذلك، كقوله: أتجزع أن نفس أتاها حمامه *** فهلا التي عن بين جنبيك تدفع قال: أراد: فهلا عن التي بين جنبيك تدفع، فحذف عن، وزادها بعد التي عوضاً؟ وتبعه ابن مالك في هذا، وقال: قد تزاد الباء كذلك. وأنشد: ولا يواتيك فيما ناب من حدث *** إلا أخو ثقة فانظر بمن تثق قال: أراد من تثق به، وزاد الباء قبل من عوضاً. قال أبو حيان في الارتشاف: نص سيبويه على أن عن وعلى لا يزادان، وتقدم قول ابن مالك في عن: إنها تزاد عوضاً، وقال: تزاد على. وأنشد: أبى الله إلا أن سرحة مالك *** على كل أفنان العضاه تروق قال: زاد على لأن راق متعدية. وما استدلوا به على أن الباء وعن وعلى تزاد عوضاً لم يقم عليه دليل. ولم يكف ابن مالك أن استدل بشيء محتمل مخالف لنص سيبويه، حتى قال: ويجوز عندي أن يعامل بهذه المعاملة من، واللام، وإلى، وفي، قياساً على عن، وعلى، والباء، فيقال: عرفت ممن عجبت، ولمن قلت، وإلى من أويت، وفيمن رغبت، والأصل: عرفت من عجبت منه، ومن قلت له، ومن أويت إليه، ومن رغبت فيه، فحذف ما بعد من وزيد قبلها عوضاً. وما أجازه ليس بصحيح، ولو استدل بشيء، لا يحتمل التأويل لكان من القلة بحيث لا يقاس عليه. انتهى. وأجاب ابن عصفور عن قوله: فهلا التي عن بين جنبيك بأنه ضرورة، لأن تقديم المجرور على حرف الجر من القلة بحيث لا يلتفت إليه. وأجاب أبو حيان في شرح التسهيل عن قوله: فانظر بمن تثق بأن الكلام ثم عند قوله: فانظر، أي: في نفسك. ثم استفهم على سبيل الإنكار، فقال: بمن تثق؟ وأجاب أيضاً عن قوله: على كل أفنان العضاه تروق بأن تروق: مضمن معنى تعلو وترتفع. قال ابن هشام: ما قاله ابن مالك فيه نظر، لأن راقه الشيء، بمعنى أعجبه، ولا معنى له هاهنا. الثالث: ليونس شيخ سيبويه، وهو أن يكون التقدير: إن لم يجد يوماً شيئاً، ثم يبتدئ، فيقول مستفهماً: على من يتكل أعلى هذا أم على هذا؟ ويكون يتكل في موضع رفع، ولكنه سكنه للقافية. ويعتمل بمعنى: يكتسب. وكان المبرد يذهب إليه قديماً، وذكره في كتاب الرد على سيبويه ثم رجع عنه. الرابع للفراء، قال: معنى لم يجد: لم يدر، كأنه قال: إن لم يدر على من يتكل. قال: وقيل لامرأة من العرب: أنزلي قدرك من النار، فقالت: لا أجد بم أنزلها، أي: لا أدري بأي شيء أنزلها. الخامس للمازني، قال: معنى لم يجد: لم يعلم، كأنه قال: إن الكريم يعتمل إن لم يعلم على من يتكل. وهذا مختار المبرد أخيراً. السادس أن يكون لم يجد في معنى: لم يكتسب، كأنه قال: إن لم يكتسب على من يتكل. نقل هذه الأقوال الأربعة الأخيرة مع قول سيبويه الزجاجي في كتابه المذكور. السابع للأعلم في شرح أيبات سيبويه، قال: يجوز أن يكون التقدير: يعتمل على من يتكل عليه من عياله، أي: يسعى لهم، وإن لم يكن ذا جدة. ومعنى يعتمل: يحترف لإقامة العيش. انتهى. وقوله: إن الكريم خبره جملة يعتمل، وقوله: وأبيك، جملة قسمية حذف جوابها، معترضة بين اسم إن وخبرها. قال صاحب الصحاح: يعتمل: يضطرب في العمل. وأنشد البيت. وهو من أبيات سيبويه الخمسين التي لم يعرف قائلها. وأورد السيوطي في شرح أبيات المغني بيتين قبلهما، وهما: إني لساقيها وإني لكسل *** وشارب من مائها ومغتسل ولا أعرف حقيقتهما. والله أعلم. وأنشد بعده: وهو من شواهد س: غدت من عليه بعد ما تم ظمؤه *** تصل وعن قيض بزيزاء مجهل على أن على يتعين أن يكون اسماً، إذا دخل عليها حرف جر كما هنا. وانقلاب ألفها مع الضمير ياء، كانقلاب ألف لدى معه. وقد ذكر سيبويه معناها حقيقة ومجازاً، ثم قال: فقد يتسع هذا في الكلام ويجيء كالمثل. وهو اسم، ولا يكون إلا ظرفاً. ويدلك على أنه اسم، قول بعض العرب: نهض من عليه. وقال الشاعر: غدت من عليه البيت قال الأعلم: الشاهد فيه دخول من على على لأنها اسم في تأويل فوق، كأنه قال: غدت من فوقه. وقال الخفاف في شرح الجمل: وقال أبو عبيدة: المعنى: غدت من عنده، لأنها بعد خروج الفرخ من البيضة انتقلت الفوقية إلى العندية، فصارت عنده لا عليه. قال الأستاذ ابن خروف: بل الفوقية ثابتة ما دام صفة الفرخ، وإن لم يكن تحت. والفوقية بجناحها. انتهى. وصريح كلام سيبويه أن اسميتها إذا دخلت عليها من غير مختص بالضرورة. وهو ظاهر كلام غيره أيضاً، خلافاً لابن عصفور، فإنه زعم أن على في هذا البيت، وفي أبيات أخر أوردها استعملت اسماً للضرورة، إجراء لها مجرى ما هي في معناه، وهو فوق. ولم أر من قال إنه ضرورة غيره. ومذهب سيبويه يرد قوليه: أحدها: للفراء ومن تبعه من الكوفيين، وهو أن: عن وعلى إذا دخل عليهما من باقيان على حرفيتهما لم ينتقلا إلى الاسمية. وزعموا أن من تدخل على حروف الجر كلها سوى مذ، واللام، والباء، وفي. وثانيهما: لجماعة من البصريين، وهو ابن الطراوة، وابن طاهر، وابن خروف، وأبو علي الرندي، وأبو الحجاج بن معزوز، والأستاذ أبو علي في أحد قوليه. زعموا أن على اسم دائماً، ولا تكون حرفاً. وزاد الأخفش على سيبويه موضعاً آخر من اسميتها، وذلك: إذا كان مجرورها، وفاعل متعلقها ضميرين لمسمى واحد، ومنه قوله تعالى: {أمسك عليك زوجك ، وقول الشاعر: هون عليك فإن الأمور *** بكف الإله مقاديرها لأنه لا يتعدى فعل الضمير المتصل إلى ضميره المتصل في غير باب ظن، وفقد، وعدم. قال أبو حيان: ولا بدل على اسميتها ما ذكره الأخفش؛ فقد جاء: وهزي إليك ، واضمم إليك جناحك ولا نعلم أحداً ذهب إلى أن إلى اسم. وقال ابن هشام: وفيما قاله الأخفش نظر، لأنها لو كانت اسماً في هذه المواضع، لصح حلول فوق محلها، ولأنها لو لزمت اسميتها لما ذكر، لزم الحكم باسمية إلى في نحو: فصرهن إليك وهذا كله يتخرج، إما على التعليق بمحذوف كما قيل: في سقياً لك، وإما على حذف مضاف، أي: هون على نفسك، واضمم إلى نفسك. ولا يحسن تخريج هذا على ظاهره، لأن بابه الشعر، ولا على قول ابن الأنباري: إن إلى ترد اسماً، يقال: انصرفت من إليك، كما تقول: غدوت من عليك، لأنه إن كان ثابتاً ففي غاية الشذوذ. ولا على قول ابن عصفور: إن إليك إغراء، والمعنى: خذ جناحك، أي: عصاك، لأن إلى لا تكون بمعنى خذ عند البصريين، ولأن الجناح ليس بمعنى العصا إلا عند الفراء، وشذوذ من المفسرين. انتهى. قال أبو حيان: ومن قال: إن على لا تكون إلا اسماً، يقول: إنها معربة، ومن جوز أن تنتقل إلى الاسمية بدخول من عليه وعلى مذهب الأخفش، اختلفوا: فقال بعض أشياخنا: هي معربة إذ ذاك. وقال أبو القاسم بن القاسم: هي مبنية، وألفها كألف هذا، فهي كعن، وكاف التشبيه، ومذ، ومنذ، إذا كن أسماء. انتهى. وقد ذهب صاحب الكشاف، وتبعه الشارح المحقق إلى أنهما مبنيان، قال في تفسير حاشا لله من سورة يوسف: فإن قلت: فلم جاز في حاشا لله أن لا ينون بعد إجرائه مجرى براءة لله؟ قلت: مراعاة لأصله الذي هو الحرفية. ألا ترى إلى قولهم: جلست من عن يمينه. تركوا عن غير معرب، على أصله، وعلى في قوله: غدت من عليه. انتهى. والبيت من قصيدة لمزاحم العقيلي عدتها أربعة وثمانون بيتاً، مذكورة في منتهى الطلب من أشعار العرب. وقبله: قطعت بشوشاة كأن قتوده *** على خاضب يعلو الأماعز مجفل أذلك أم كدرية ظل فرخه *** لقىً بشرورى كاليتيم المعيل غدت من عليه بعد ما تم ظمؤه *** تصل وعن فيض بزيزاء مجهل غدواً طوى يومين عنه انطلاقه *** كميلين من سير القطا غير مؤتلي الشوشاة، بفتح الشين المعجمة: الناقة الخفيفة. والقتود، بضم القاف والمثناة الفوقية: جمع قتد، بفتحتين، وهو خشب الرحل، ويجمع على أقتاد أيضاً. والخاضب، بمعجمتين، هو ذكر النعام الذي أكل الربيع فاحمر ساقاه. والأماعز: جمع أمعز، بالعين المهملة والزاء المعجمة، وهي الأرض الكثيرة الحصباء. ومجفل: اسم فاعل من أجفل بمعنى نفر. وقوله: أذلك أم كدرية؟ الإشارة إلى الخاضب. والكدرية، بالضم: القطاة الغبراء اللون. قال صاحب الصحاح: الكدري ضرب من القطا، وهو ثلاثة أضرب: كدري، وجوني بضم الجيم، وغطاط، بفتح المعجمة بعدها مهملتان. فالكدري: الغبر الألوان، الرقش الظهور والبطون، الصقر الحلوق، وهو ألطف من الجوني، كأنه نسب إلى معظم القطا، وهو كدر. وذلك: خبر مبتدأ محذوف. والتقدير: أتلك الشوشاة ذلك الخاضب أم كدرية؟ وهو تشبيه بليغ بحذف أداة التشبيه. شبه ناقته في الخفة والسرعة بأحدهما على طريق الاستفهام التجاهلي. ولا وجه لقول الجواليقي في شرح أدب الكاتب: يريد: أذلك الظليم أحب إليك، أم قطاة كدرية. وقال ابن يعيش: يريد: أذلك الخاضب يشبه ناقتي في سرعتها أم كدرية؟ يعني قطاة هذه صفتها. وجملة: ظل فرخها لقىً...إلخ، صفة لكدرية. واللقى، بفتح اللام والقاف: الملقى والمطروح الذي لا يلتفت إليه. وشرورى، بفتح الشين المعجمة والراءين المهملتين وسكون الواو بينهما وآخره ألف مقصورة. قال أبو عبيد البكري في معجمه: هو جبل بطريق مكة إلى الكوفة، بين بني أسد وبني عامر. ومعيل، بفتح المثناة التحتية المشددة: الفقير، وقيل: المهمل. قال ابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب: شبه فرخها في انفراده، سوء حاله باليتيم. قال الأصمعي: وإنما قال: لقىً بشرورى، لأن القطاة لا تبيض إلا بأرض في فماحص ونقر، ولا تعشش في الشجر. وقوله: غدت من عليه...إلخ، قال الفالي: في شرح اللباب غدا بمعنى صار، يقال: غدا زيد أميراً، أي: صار، وأنشد البيت. وقال: أي: انصرفت القطاة من فوقه. فهو غير مخصوص بوقت دون وقت، بخلاف ما إذا استعمل في غير معنى صار، فإنه يختص بوقت الغداة. تقول: غدا زيد ذاهباً، أي: ذهب بالغداة. فمعنى غدت صارت، إذ لا يريد انصرفت، وانفلتت في وقت الغداة فقط. انتهى. ويؤيده ما رواه ابن السيد وغيره عن أبي حاتم، أنه قال للأصمعي: كيف قال: غدت من عليه، والقطاة إنما تذهب إلى الماء ليلاً لا غدوة؟ فقال: لم يرد الغدر، وإنما هذا مثل للتعجيل. والعرب تقول: بكر إلي العشية، ولا بكور هناك. وأنشد أبو زيد: بكرت تلومك بعد وهن في الندى وإنما الوهن في الليل. انتهى. وبما ذكرنا يزيف قول بعض أفاضل العجم في شرح أبيات المفصل: يقول: غدت القطاة، وطارت غدوة إلى الماء من فوق فرخها. انتهى. واسم غدت الضمير المستتر فيها العائد إلى كدرية. وقوله: من عليه متعلق بمحذوف على أنه خبرها. وبعد: ظرف لغدت، وما: مصدرية، وظمؤها: فاعل تم. يريد أنها أقامت مع فرخها حتى احتاجت إلى ورود الماء، وعطشت، فطارت تطلب الماء عند تمام ظمئها. وأراد بذكر الفرخ سرعة طيرانها، لتعود إليه مسرعة، لأنها كانت تحضنه. والظمءْ، بالكسر وسكون الميم مهموز الآخر: مدة صبرها عن الماء وهو ما بين الشرب إلى الشرب. قال ابن السكيت في كتاب المعاني: قوله بعد ما تم ظمؤها، أي: إنها كانت تشرب في كل ثلاثة أيام وأربعة مرة، فلما داء ذلك الوقت طارت. وروى المبرد في الكامل: بعد ما تم خمسها بكسر الخاء. وقال: الخمس: ظمء من أظمائها، وهي أن ترد ثم تغب ثلاثاً، ثم ترد، فيعتد بيومي وردها مع ظمئها، فيقال: خمس. هذا كلامه. وظاهره أن الخمس مكن أظماء القطا، وليس كذلك إنما هو للإبل. قال ابن السيد: الخمس: ورود الماء في كل خمسة أيام. ولم يرد أنها تصبر عن الماء خمسة أيام، إنما هذا للإبل لا للطير، ولكنه ضربه مثلاً. هذا قول أبي حاتم، ولأجل ذلك كانت رواية من روى: ظمؤها أحسن وأصح معنى. وظاهر هذا أيضاً أن الظمء لا يختص بالإبل. ويؤيده قول صاحب القاموس: والظمء بالكسر: ما بين الشربين والوردين، وهو من الظمأ كالعطش، وزناً ومعنى، وأشد العطش وأهونه وأخفه. قاله أبو زيد. لكن صاحب الصحاح خصه بالإبل، قال: الظمء ما بين الوردين، وهو حبس الإبل عن الماء إلى غاية الورد. وقوله: تصل، أي: تصوت؛ جملة حالية، وإنما يصوت حشاها من يبس العطش، فنقل الفعل إليها، لأنه إذا صوت حشاها فقد صوتت. وإنما يقال لصوت جناحها الحفيف. قال أبو حاتم: ومعنى تصل تصوت أحشاؤها من اليبس والعطش. والصليل: صوت الشيء اليابس، يقال: جاءت الإبل تصل عطشاً. وقال غيره: أراد أنها تصوت في طيرانها. وقوله: وعن قيض إن كان معطوفاً على لعيه ففيه شاهد آخر، وهو اسمية عن، وإن كان معطوفاً على من عليه فعن حرف. واقتصر اللخمي على الأول. والقيض، بفتح القاف: قشر البيضة الأعلى، وإنما أراد قشر البيضة التي خرج منها فرخها، وقشر البيضة التي فسدت فلم يخرج منها فرخ. وقول السيرافي: وغدت عن قيض يعني وعن فراخ، لا معنى له هنا، لأنه إنما أراد أنها غدت عن فرخ، وعن قشر بيض، خرج منه هذا الفرخ، وقشر بيض فسد فلم يخرج منه فرخ. والأول هو الظاهر. ويقال للقيض: الخرشاء أيضاً، بكسر المعجمة وسكون المهملة بعدها سين معجمة فألف ممدودة. والقشر الرقيق الذي تحته، يقال له: الغرقئ، بكسر المعجمة وسكون المهملة بعدها قاف مكسورة فهمزة. والمح، بضم الميم وتشديد المهملة: صفرة البيض. قال اللخمي: والآح: بياض البيض. وقوله: بزيزاء مجهل الجار والمجرور متعلق بمحذوف على أنه صفة لقيض. والزيزاء، بزاءين معجمتين يروى بكسر الأولى وفتحها، واقتصر المبرد على الكسر، فقال: الزيزاء: ما ارتفع من الأرض، وهو ممدود منصرف في المعرفة والنكرة إذا كان لمذكر، كالعلباء والحرباء. انتهى. يريد أن الألف الممدودة فيه ليست للتأنيث، إنما هي للإلحاق بحملاق، كالعلباء، فوزنه فعلال. وكذلك اقتصر عليه الجوهري، فقال: الزيزاء، بالمد: ما غلظ من الأرض. والزيزاء أخص منه، وهي الأكمة، والهمزة فيه مبدلة من الياء، يدل على ذلك قولهم في الجمع: الزيازي. ومن قال الزوازي جعل الياء الأولى مبدلة من الواو، مثل القوافي في جمع قيقاءة. انتهى. وقال في تفسير القيقاءة: إنها الأرض الغليظة، والهمزة مبدلة من الياء، والياء الأولى مبدلة من الواو. وقصر صاحب القاموس في قوله: الزيزاء بالكسر، والزيزاء، والزيزى، والزازية: ما غلظ من الأرض، والأكمة الصغيرة، كالزيزاءة والزيزاة. انتهى. وقال ابن يعيش: الزيزاء: الأرض الغليظة المستوية التي لا شجر فيها، واحدتها زيزاءة. وقيل: هي المفازة التي لا أعلام فيها. وهمزته للإلحاق بنحو حملاق، وهي في الحقيقة منقلبة عن ألف منقلبة عن ياء، يدل على ذلك ظهورها في درحاية لما بنيت على التأنيث عادت إلى الأصل. ولغة هذيل زيزاء بفتح الزاء، كالقلقال، فالهمزة على هذا منقلبة عن ياء، ووزنه فعلال، والأول فعلال. انتهى. فالهمزة في كل من المكسور الزاي ومفتوحها أصلها ياء زائدة للإلحاق بما ذكر، وليست الألف الممدودة فيهما للتأنيث. أما الأول فلأن فعلاء المكسور الفاء وكذا المضموم الفاء عند البصريين لا يكونان إلا للإلحاق. وأجاز الكوفيون ترك صرف فعلاء بالكسر على أن يكون ألفها للتأنيث، احتجوا بقوله تعالى: {تخرج من طور سيناء في قراءة الكسر. وأجاب البصريون بأن امتناعه من الصرف ليس من أجل أن الهمزة للتأنيث، وإنما هو لمعنى البقعة والأرض، فاجتمع فيه التعريف والتأنيث. وأما الثاني فللإلحاق أيضاً. فإن قلت: فعلاء بالفتح خاص بالمؤنث. قلت: نعم، ولكن في غير المكرر. فإن قلت: فعلال بالفتح نادر، ولا يلحق بالنادر. قلت: قال الرضي في شرح الشافية إن فعلالاً إذا كان فاؤه ولامه الأولى من جنس واحد، نحو: زلزال، وخلخال غير نادر اتفاقاً، فيجوز الإلحاق به. فإن قلت: قال الخفاف في شرح الجمل: وبعضهم يرويه زيزاء بفتح الزاي والهمزة، غير مصروف للتأنيث اللازم كبيداء. انتهى. فهذا يدل على أن الهمزة للتأنيث لا للإلحاق. قلت: يحمل حينئذ على زيادة الألف المنقلبة همزة للتأنيث. وعلى هذه الرواية يكون مجهل صفة لزيزاء. فإن قلت: ما تصنع بالوجهين الأولين، وهما كسر الزاي، وفتحها مع كسر الهمزة فيهما. قلت: قال الجواليقي وابن يعيش: من روى بزيزاء أضافه إلى مجهل، وقدر حذف الموصوف، أي: مكان مجهل. وبهذا يضمحل قول ابن الملا في شرح المغني: والعجب أن السيوطي حكى في الزاء الكسر والفتح، مع أن وجه الكسر لا يستقيم في البيت، لأن الاسم معه منصرف. انتهى. ووجه توقفه أن مجهلاً صفة لزيزاء، والوصف إنما يتم على الفتح للزاي والهمزة. وإما إن كسرت الأول، فهو منصرف، يقتضي الإضافة إلى الصفة. وجوابه: أن المضاف إليه محذوف نابت صفته عنه كما قلنا. وروى: ببيداء مجهل بدل قوله: بزيزاء مجهل. قال ابن السيد وغيره: البيداء: القفر الذي يبيد من يسلكه، أي: يهلكه. والمجهل: الذي ليس له أعلام يهتدى بها. فمن روى: ببيداء جعل المجهل صفة لها، ومن روى: بزيزاء أضافها إلى المجهل. وهذه رواية البصريين. انتهى. وفي القاموس: وأرض مجهل كمقعد: لا يهتدى فيها، لا يثنى ولا يجمع. وزعم العيني أن زيزاء هنا علم بقعة، فإنه بعد أن نقل عن الثعلبي أنها الأرض الغليظة، قال: قلت الزيزاء: منهل معين من مناهل الحج من أرض الشام ينزل منها إلى أرض معان من بلاد الشوبك. ويروى بفتح همزتها وكسرها، ففتحها على أنه ممنوع من الصرف. فعند البصريين منع للعلمية والتأنيث لأنه بقعة، وعند الكوفيين لأن ألفه للتأنيث. فعلى هذا يكون قوله: مجهل صفة لزيزاء. وأما كسرها فعلى الإضافة إلى مجهل. هذا كلامه، وفيه خطأ من وجوه: أولها: لا يصح أن يكون زيزاء في البيت المنهل المذكور، لأنه لو كان كما زعم لم تفارق القطاة فرخها لطلب الماء، ولم يكن لها ظمء، ولم يكن موضع فرخها مجهلاً. ثانيها: أن ذلك المنهل إنما هو زيزاء بدون لام التعريف، قال ياقوت في معجم البلدان: زيزاء من قرى البلقاء: كبيرة يطؤها الحاج، ويقال: لهم بها سوق فيها بركة عظيمة. وأصله في اللغة المكان المرتفع، وكذلك هي. انتهى. وقال صاحب القاموس: زيزى كضيزى: موضع بالشام. فرواه بالقصر. ولا يعرف هل هو ما ذكره ياقوت، أم غيره. ثالثها: لم يقل أحد من البصريين إن زيزاء المكسور الأول ممنوع من الصرف، وموضع الخلاف عندهما إنما هو في زيزاء بالكسر، نكرة، فالبصريون يوجبون صرفه لأن ألف فعلاء بسكر الفاء ليست للتأنيث. والفراء ومن تبعه يجوز منع الصرف على أن الألف للتأنيث، ويستدل بقراءة من طور سيناء بالكسر. وأجاب البصريون بأن منع صرفه إنما هو للعلمية والتأنيث، لأنه علم بقعة، لا لأن ألفه للتأنيث كما تقدم. فهذا خبط منه، وتخليط في تقرير المسألة عند الفريقين. رابعها: لا يصح وصف المعرفة بالنكرة. خامسها: لا وجه لإضافة المعرفة إلى النكرة. ومن هذا البيت إلى آخر القصيدة خمسة وعشرون بيتاً كلها في وصف القطا. ومزاحم العقيلي شاعر إسلامي تقدمت ترجمته في الشاهد الثالث والستين بعد الأربعمائة. وأنشد بعده: وهو من شواهد س: ولقد أراني للرماح درية *** من عن يميني مرةً وأمامي على أن عن فيه اسم بمعنى جانب، لدخول حرف الجر عليها. واستشكل هذا بأن الكلمة إنما تعد حرفاً واسماً، إذا اتحد أصل معنييهما، والجانب ليس بمعنى المجاوزة. وأجيب بأن الزمخشري بين في مفصله أن معنى: جلس عن يمينه، أنه جلس متراخياً عن بدنه في المكان الذي بحيال يمينه. فمعنى جلست عن يمينه: جلست من جانب يمينه وموضع متجاوز عن بدنه، في المكان الذي بحيال يمينه. فيكون المراد بالجانب الجهة المجاوزة لبدنه، لا مطلق الجهة، فيتحد أصل معنى عن. قال ابن هشام في المغني: اسمية عن متعينة في ثلاثة مواضع: أحدها: أن تدخل عليها من، وهو كثير. ومن الداخلة على عن زائدة عند ابن مالك، ولابتداء الغاية عند غيره. قالوا: فإذا قيل: قعدت عن يمينه فالمعنى في جانب يمينه، وذلك محتمل للملاصقة ولخلافها. فإن جئت بمن تعين كون القعود ملاصقاً لأول الناحية. والثاني: أن تدخل عليها على، وذلك نادر، والمحفوظ منه بيت واحد، وهو قوله: على عن يميني مرت الطير سنح *** وكيف سنوح واليمين قطيع والثالث: أن يكون مجرورها وفاعل متعلقها ضميرين لمسمى واحد، قاله الأخفش، كقول امرئ القيس: دع عنك نهباً صيح في حجراته *** ولكن حديثاً ما حديث الرواحل وذلك لئلا يؤدي إلى تعدي فعل المضمر المتصل إلى ضميره المتصل. وتقدم الجواب عنه. ومما يدل على أنها ليست هنا اسماً، أنها لا يصح حلول الجانب محلها. انتهى. والبيت من أبيات أربعة أوردها أبو تمام في الحماسة لقطري بن الفجاءة، وهي: لا يركنن أحد إلى الإحجام *** يوم الوغى متخوفاً لحمام فلقد أراني للرماح دريةً ....... .............البيت حتى خضبت بما تحدر من دمي *** أكناف سرجي وعنان لجامي ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب *** جذع البصيرة قارح الإقدام قوله: لا يركنن أحد...إلخ، لا: ناهية، وركن إلى الشيء: مال إليه. والإحجام بتقديم المهملة: التأخر والنكوص. والمتخوف: الخائف شيئاً بعد شيء. والحمام، بسكر المهملة: الموت. وهذا البيت أورده شراح الألفية شاهداً لمجيء الحال من النكرة لوقوعها بعد النهي. وأراني: أعلمني؛ ولكونه من أفعال القلوب، صح أن يقع فاعله ومفعوله لمسمىً واحد. ودرية: مفعوله الثاني. ويجوز أن يكون حالاً، والرؤية بصرية، والمضاف إلى الياء محذوف، أي: أرى نفسي. قال ثعلب في أماليه: الدريئة، بالهمز: الحلقة التي يرمي فيها المتعلم ويطعن. والدرية بلا همز: الناقة التي ترسل مع الوحش لتأنس بها، ثم يستتر بها، ويرمى الوحش. انتهى. وقال القالي في أماليه بعد إنشاد هذه الأبيات الأربعة: الدريئة مهموزة: الحلقة التي يتعلم عليها الطعن، وهي فعلية بمعنى مفعولة. من درأت، أي: دفعت. والدرية غير المهموز: دابة وجمل يستتر به الصائد فيرمي الصيد. وهو من دريت، أي: ختلت. قال الشاعر: فإن كنت لا أدري الظباء فإنني *** أدس لها تحت التراب الدواهيا وبنوه على وزن خديعة، إذ كان في معناها. انتهى. قال شارحها أبو عبيد البكري: هذا البيت لعبد الله بن محمد بن عباد الخولاني، قاله الهمداني في كتاب الإكليل. وكنى بالظباء عن النساء. والصيادون يدفنون للوحش في طرقها إلى الماء حدائد أشباه الكلاليب، فإذا جازت عليها قطعت قوائمها. انتهى. قال شراح الحماسة: ويمكن حمل البيت عليهما. فالمراد على الأول: أن الطعن يقع فيه كما يقع في تلك الحلقة، وعلى الثاني: أنه يصير سترة لغيره من الطعن، كما تكون تلك الدابة سترة للصائد، وعلى هذا يكون للرماح: من أجل الرماح. وإنما اقتصر على اليمين والأمام، أي: القدام، لأنه يعلم أن اليسار في ذلك كاليمين. وأما الظهر فإن الفارس لا يمكن منه أحداً. ومن على قول ابن مالك زائدة، ومتعلقة بمحذوف على قول غيره. أي: تأتيني من هذه الجهات. وقوله: حتى خضبت...إلخ، أكناف السرج: جوانبه، جمع كنف بفتحتين. وعنان اللجام: سيره الذي تمسك به الدابة. وأو للتقسيم، وقال القالي في أماليه: أراد وعنان لجامي. والمعنى: انتصبت للرماح حتى خضبت بما سال من دمي جوانب السرج، وعنان فرسي، وذلك على حسب مواقع الطعن فالعنان لما سال من أعاليه، وجوانب السرج لما سال من أسافله. وقيل: إنما أراد دم من قتله، فأضافه إلى نفسه لأنه أراقه. وقوله: وقد أصبت ولم أصب، الأول بالبناء للفاعل، والثاني للمفعول، وجذع وقارح: حالان. والجذع، بفتح الجيم والذال المعجمة: الشاب الحدث، والقارح: المنتهي في السن. قال الخطيب: هما مثلان، وأصلهما في الخيل وذوات الحوافر. وذلك أن المهر يركب بعد حول سياسة ورياضة، فإذا بلغ حولين فهو جذع، فحينئذ يستغني عن الرياضة. يقول: أنا جذع البصيرة لا أحتاج إلى تهذيب، كما لا يحتاج الجذع إلى الرياضة، وإقدامي قارح، أي: قد بلغ النهاية، كما أن القروح نهاية سن الفرس. وهذا ما ذكره الشراح. ومعناه كما ذكره أبو العلاء المعري أنه يريد أنه لم يزل شجاعاً، فإقدامه قارح لأنه قديم. ويعني بجذع البصيرة أنه كان فيما سلف لا يرى رأي الخوارج، ثم تبصر في آخر أمره، فعلم أنهم على لاحق، فبصيرته جذعة، أي: محدثة. وذلك أنه كان خارجياً سلم عليه بالخلافة ثلاث عشرة سنة. انتهى. وقال القالي: أي وأنا على بصيرتي الأولى. وقارح الإقدام، أي: متناه في الإقدام. وقال أبو عبيد البكري في شرحها قال النمري: يريد ثم انصرفت وقد قتلت، ولم أقتل بعد أن خضبت سرجي ولجامي. يريد أن الأجل حرز فلا يركنن أحد إلى الجبن خوف الموت. وقوله: جذع البصيرة يريد استبصاره الذي كان عليه في أول الأمر، لم ينتقل عنه لما ناله من الجراحات، ولم يضعف فيه، قارح الإقدام، أي: قد بلغ إقدامه النهاية. وقال قوم: إنما يريد بقوله: ولم أصب لم ألف على هذه الحال، ولكني قارح البصيرة جذع الإقدام، أي: رأيه رأي شيخ، وإقدامه إقدام غلام. ويكون البصيرة على هذا الرأي والتدبير كالاستبصار في الأمر؛ وهو الأعرف في كلام العرب، فإن البصيرة للقلب، كالبصر للعين. والحجة لهذا المذهب: قوله ولم أصب، وهو قد قال قبل هذا: حتى خضبت بما تحدر من دمي، والإصابة قد تكون فيما دون النفس، وهو الأكثر. انتهى. وبعد هذه الأربعة بيتان لم يوردهما أبو تمام، وهما: متعرضاً للموت أضرب معلم *** بهم الحروب مشهر الإعلام أدعو الكماة إلى النزال ولا أرى *** نحر الكريم على القنا بحرام وقطري هو رأس الخوارج، كان أحد الأبطال المذكورين، خرج في مدة ابن الزبير، وبقي يقاتل ويستظهر بضع عشرة سنة، وسلم عليه بإمرة المؤمنين. وجهز عليه الحجاج جيشاً بعد جيش، وهو يستظهر عليهم ويكسرهم. وتغلب على نواحي فارس وغيرها. ووقائعه مشهورة. وقد ذكر المبرد كثيراً من أخباره في الكامل. وكان مع شجاعته من البلغاء، وله شعر جيد. وكان آخر أمره أن الحجاج ندب له سفيان بن الأبرد في جيش كثيف، واجتمع معه إسحاق بن محمد بن الأشعث، في جيش لأهل الكوفة، فأقبلا في طلب قطري، فأدركوه في شعب من شعاب طبرستان، فقاتلوه، فتفرق عنه أصحابه، وسقط عن دابته، فتدهده إلى أسفل الشعب. وأتاه علج من أهل البلد فحدر عليه حجراً من فوقه، فأصاب وركه فأوهنه، وصاح بالناس فأقبلوا نحوه، وجاء نفر من أهل الكوفة فقتلوه، وأرسلوا رأيه إلى الحجاج، فسيره إلى عبد الملك، وذلك في سنة سبع وسبعين بتقديم السين على الموحدة فيهما. كذا في تاريخ النويري. وقطري، بفتح القاف والطاء وتشديد الياء، قال الجوهري: وقطري بن فجاءة المازني، زعم بعضهم أن أصل الاسم مأخوذ من قطري النعال. قال الصلاح الصفدي في حاشيته على الصحاح قلت: بل هو منسوب إلى قطر، بالسيف، على ما ذكره بعضهم. انتهى. أقول: السيف، بكسر السين: ساحل البحر، قال أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم: قطر، بفتح أوله وثانيه بعده راء مهملة: موضع بين البحرين وعمان تنسب إليه الإبل الجياد، وهي اكثر بلاد البحرين حمراً. والفجاءة، بضم الفاء والمد، قال صاحب الصحاح: فاجأه الأمر مفاجأة وفجئاً، وكذلك فجئه الأمر وفجأه الأمر، بالكسر والنصب فجاءة بالضم والمد. ومنه قطري بن فجاءة المازني. قال أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي: اختلف في اسم الفجاءة، فقيل: اسمه جعونة، وقيل: مازن، بن يزيد بن زياد بن حنثر بن كابية بن حرقوص بن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم. وسمي الفجاءة لأنه غاب دهراً باليمن ثم جاءهم فجاءة. انتهى. وجزم صاحب الجمهرة أن اسمه جعونة بن مازن، فجعل مازناً والد جعونة لا والد قطري. وهو بفتح الجيم وسكون العين وبعد الواو نون. وحنثر، المشهور أنه حبتر بفتح المهملة وسكون الموحدة بعدها مثناة فوقية. قال الأمير الحافظ أبو نصر علي بن ماكولا في إكماله: وقال ابن الكلبي: قطري بن الفجاءة، ورفع في نسبه إلى حنثر بن كابية بفتح المهملة وسكون النون بعدها ثاء معجمة بثلاث. ويروى حبتر، والصواب بالنون والمثلثة. والله أعلم. وكابية بموحدة بعدها مثناة تحتية. وحرقوص بضم الحاء المهملة والقاف. وأنشد بعده: باتت تنوش الحوض نوشاً من عل *** نوشاً به تقطع أجواز الفلا على أن علا الاسمية لا تلزم الإضافة كما هنا، بخلاف عن فإنها تلزمها. قال أبو علي في تذكرته: بجوز أن يكون علا مبنياً معرفة، ويجوز أن يكون معرباً نكرة. فإن كان مبنياً كانت الألف منقلبة عن الواو لتحركها بالضمة. وإن كان معرباً كانت منقلبة عن الواو لتحركها بالجر. فإن قيل: لا يكون إلا مبنياً، لأنه معرفة لتقدم الحوض، والمعنى: من علا الحوض. قيل: قد قال الله تعالى: {لله الأمر من قبل ومن بعد فهما نكرتان، وإن كان ذكر الغلبة قد تقدم، وكان معلوماً، إذ معنى الكلام من قبل الغلبة، ومن بعدها. انتهى. وعلى هذا يقرأ قول الشارح المحقق، أي: من فوق بضم القاف وكسرها منونة. وقد أخل ابن جني في شرح تصريف المازني في النقل عن أبي علي؛ فإنه قال: قد كان أبو علي يقول في علا من هذا الرجز، أن الألف في علا منقلبة عن الواو، لأنه من علوت، وأن الكلمة في موضع مبني نحو: قبل وبعد؛ لأنه يريد نوشاً من علاه. فلما اقتطع المضاف من المضاف إليه وجب بناء الكلمة على الضم، نحو: قبل وبعد، فلما وقعت الواو مضمومة وقبلها فتحة قلبت ألفاً. وهذا مذهب حسن. انتهى. فلله در الشارح المحقق حيث لم يقيد. لكن أنشده الشارح في أول حروف الجر على أن علامة علا فيه مبني على الضم لحذف المضاف إليه وإرادة معناه. وأورده ثعلب في أماليه على أنه يقال: من علو بسكون اللام وكسر الواو مع التنوين، وعلو، بضم الواو، وعلو، بفتحها، ومن علونا، بضم العين وكسر الواو، ومن عل، ومن عال، ومن علا. وأنشد البيتين. وقال: من قال: من علاً جعله مثل قفاً، وعال مثل فاعل، وعل مثل عم، ومن معال مثل مفاعل بضم الميم، ومن علو مثل قبل وبعد، ومن علو مثل ليت. انتهى. وتقدم شرحه بأبسط مما هنا في الشاهد الثالث والسبعين بعد السبعمائة. وأنشد بعده: يضحكن عن كالبرد المنهم على أن الكاف يتعين اسميتها إذا انجرت كما هنا. فالكاف اسم بمعنى مثل، صفة موصوف محذوف، أي: عن ثغر مثل البرد. قال أبو حيان في الارتشاف: واختلفوا هل تكون اسماً في الكلام، ويختص ذلك بضرورة الشعر؟ فذهب الأخفش والفارسي في ظاهر قوله، وتبعهما ابن مالك، أنها تكون اسماً في الكلام، وقد كثر جرها بالباء، وعلى، وعن، وأضيف إليها وأسند، فاعلة ومبتدأة ومفعولة. لكن كل هذا في الشعر. وذهب سيبويه إلى أن استعمالها اسماً إنما يجوز في ضرورة الشعر. انتهى. ومثال جرها بالباء قول امرئ القيس يصف فرساً: ورحنا بكابن الماء يجنب وسطن *** تصوب فيه العين طوراً وترتقي وابن الماء: طائر، يقال له: الغرنيق، شبه الفرس به في سرعته، وسهولة مشيه. ويجنب: يقاد. وتصوب: تنحدر. وترتقي: ترتفع. يريد أن عين الناظر إليه تصعد فيه النظر، وتصوبه إعجاباً به. ومثال جرها بعلى قول ذي الرمة: أبيت على مي كئيباً وبعله *** على كالنقا من عالج يتبطح ومثال وقوعها فاعلة البيت الآتي. ومثال وقوعها مبتدأة قول الكميت: علينا كالنهاء مضاعفات *** من الماذي لم تؤذ المتونا أي: علينا مثل النهاء. ومثال وقوعها مفعولة قول النابغة: لا يبرمون إذا ما الأفق جلله *** برد الشتاء من الإمحال كالأدم فالكاف مفعول جلله. ومثال وقوعها مضافاً إليها قوله: تيم القلب حب كالبدر لا بل *** فاق حسناً من تيم القلب حبا والبيت الآتي، وهو: فصيروا مثل كعصف مأكول وبقي عليه جرها بالكاف، وسيأتي. ومثال جرها بعن البيت الشاهد. وقبله: ولا تلمني اليوم يا ابن عمي *** عند أبي الصهباء أقصى همي بيض ثلاث كنعاج جم *** يضحكن عن كالبرد المنهم تحت عرانين أنوف شم أبو الصهباء: كنية رجل. والهم، بالفتح، الهمة بالكسر: أول العزم، وهو الإرادة، وقد يطلق على العزم القوي، فيقال: له همة عالية. قال ابن فارس: الهم: ما هممت به، إذا أردته، ولم تفعله. وبيض بالرفع: إما بدل من أقصى همي، وإما خبر لمبتدأ محذوف، أي: هو، والجملة جواب سؤال مقدر. وقيل: بيض - بالجر - بدل من همي، ولا وجه له. وقيل بيض ثلاث: مبتدأ. وجملة يضحكن خبره، وقيل: خبر مبتدأ محذوف، أي: هن بيض؛ وقيل: مبتدأ خبره محذوف، أي: منهن بيض. ذكر هذه الأوجه الثلاثة الأخيرة العيني تبعاً لصاحب التخمير. والبيض: الحسان، جمع بيضاء، وهي الحسناء. والنعاج: جمع نعجة، في المصباح: النعجة الأنثى من الضأن. والعرب تكنى عن المرأة بالنعجة. انتهى. ونقل عن أبي عبيد أنه لا يقال لغير بقر الوحش نعاج. وتشبه النساء بها في العيون والأعناق. والجم، بضم الجيم: جمع جماء، وهي التي لا قرن لها، يقال: جمت الشاة جمماً، من باب تعب: إذا لم يكن لها قرن، فالذكر أجم والأنثى جماء، وجمعهما جم بالضم. وفائدة الوصف بجم نفي ما يكسبهن سماجة. والبرد: حب الغمام، وهو شيء ينزل من السحاب يشبه الحصى، ويسمى حب المزن أيضاً. والمنهم: الذائب. قال الجوهري: انهم البرد والشحم: ذاب. وهمه: أذابه. شبه ثغر النساء بالبرد الذائب في اللطافة والجلاء. والثغر أصله المبسم، ويطلق على الثنايا. وقوله: تحت العرانين متعلق بمحذوف على أنه صفة ثانية للبرد. والعرانين: جمع عرنين، وهو ما تحت مجتمع الحاجبين من الأنف. والشم: جمع أشم وشماء. والشمم: ارتفاع قصبة الأنف مع استواء أعلاه. فإن كان احديداب فهو القنا والأنف، والرجل أقنى، والأنثى قنواء. وهذا الرجز للعجاج. وتقدمت ترجمته في الشاهد الحادي والعشرين من أوائل الكتاب. وأنشد بعده: أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط *** كالطعن يهلك فيه الزيت والفتل على أنه يتعين فيه اسميتها أيضاً، إذا طلبها عامل رفع كما هنا، فإنها اسم بمعنى مثل، وقعت عاملة لينهى. وقوله: إذا ارتفعت، معطوف على قوله: إذا انجرت. وتقدم كلام ابن السراج في تعين اسمية الكاف عند الكلام على هذا البيت في الشاهد السادس والسبعين بعد السبعمائة. وقد بسط عليها الكلام ابن جني في سر الصناعة وجوز اسميتها في الاختيار دون الضرورة، بخلاف ابن عصفور في كتاب ابن الضرائر. ولا بأس بإيراد كلامهما. ولنقدم الثاني فإنه أخصر وأجمل، قال: ومنه استعمال الحرف اسماً للضرورة، كقول الأعشى: أتنتهون البيت فجعل الكاف فاعلة لينهى. وقول امرئ القيس: وإنك لم يفخر عليك كفاخر *** ضعيف ولم يغلبك مثل مغلب فجعل الكاف فاعلة بيفخر. والدليل على أنها فاعلة في البيتين، أنه لا بد للفعل من فاعل، فلا يجوز أن يكون الفاعل محذوفاً، ويكون تقديره في البيت الأول ناه كالطعن، وفي البيت الثاني فاخر كفاخر. لأنه لا يخلو بعد الحذف أن يقام المجرور مقامه ولا يقام. فإن لم يقم مقامه لم يجز ذلك، لأن الفاعل لا يحذف من غير أن يقام شيء مقامه. وإن قدر، لزم أن يكون المجرور فاعلاً، والمجرور الذي حرف الجر فيه غير زائد لا يكون فاعلاً. فلما تعذر حذف الفاعل على التقديرين لم يبق إلا أن تكون الكاف هي الفاعلة، عوملت معاملة مثل، لأن معناها كمعناه. وحكم لها بحكمه بدلاً من حكمها للضرورة. ومما استعملت أيضاً الكاف فيه اسماً قول ذي الرمة: وبعله على كالنقا. وقول امرئ القيس: ورحنا بكابن الماء والدليل على أن الكاف فيهما ليست بحرف جر، أن حرف الجر لا يدخل على حرف الجر إلا أن يكونا في معنى واحد، فيكون أحدهما تأكيداً للآخر. فإن قيل: لعل الكاف حرف جر، ويكون المجرور بعلى والباء محذوفاً. والتقدير: على كفل كالنقا، وبفرس كابن الماء، فالجواب: أن ذلك لا يسوغ، لأنك إن لم تقدر المجرور قائماً مقام المحذوف، لزم من ذلك أن يكون الحرف الذي هو الكاف مع الاسم المجرور به في موضع خفض بعلى والباء، وذلك لا يجوز، لأن حروف الجر إنما تجر الأسماء وحدها، فلما تعذر أن تكون الكاف حرفاً على التقديرين، لم يبق إلا أن تكون قد جعلت اسماً. انتهى. وقال ابن جني: إن قال قائل: هل يجوز أن تكون الكاف في كالطعن حرف جر، وتكون صفة قامت مقام الموصوف. والتقدير: ولن ينهى ذوي شطط شيء كالطعن، فيكون الفاعل المحذوف الموصوف حذف جائزاً كما حذف الموصوف في قوله: ودانيةً عليهم ظلالها ، أي: جنة دانية، وكقول الآخر: كأنك من جمال بني أقيش أي: جمل من جمال بني أقيش؟ فالجواب: أن حذف الموصوف، وإقامة الوصف مقامه قبيح، وفي بعض الأماكن أقبح. فأما دانية فالوجه أن يكون حالاً معطوفة على متكئين، فهذا لا ضرورة فيه. وأما قوله: كأنك من جمال فإنما جاز في ضرورة الشعر. ولو جاز لنا أن نجد من في بعض المواضع قد جعلت اسماً لجعلناها هنا اسماً، ولم نحمل الكلام على إقامة الصفة. فأما قوله: ولن ينهى ذوي شطط كالطعن، فلو حملته على إقامة الصفة مقام الموصوف، لكان أقبح من تأول قوله تعالى: {ودانية على حذف الموصوف، لأن الكاف في بيت الأعشى هي الفاعلة في المعنى، ودانية إنما هي مفعول، والمفعول قد يكون غير اسم صريح، نحو: ظننت زيداً يقوم، والفاعل لا يكون إلا اسماً صريحاً محضاً. فإن قلت: ألست تعلم أن خبر كأن يجري مجرى الفاعل، وقد قالوا: كأنك من جمال بني أقيش وأرادوا: جمل من جمال بني أقيش، فهلا أجزت حذف الفاعل، وإقامة الصفة مقامه في قول الأعشى؟ فالجواب: أن بينهما فرقاً من وجهين: أحدهما: أن خبر كأن وإن شبه بالفاعل في ارتفاعه، فليس في الحقيقة فاعلاً، وجعلهم خبرها فعلاً، يدل على أنه لا يبلغ قوة الفاعل. والآخر: أن قوله: كأنك من جما لبني أقيش اضطررنا فيه إلى إقامة الصفة مقام الموصوف، وبيت الأعشى لم نضطر فيه إلى ذلك لأنه قد قامت الدلالة البينة عندنا على استعمالهم الكاف اسماً في نحو قوله: وبعلها على كالنقا فهذا ونحوه يشهد بكون الكاف اسماً، وبيت الأعشى أيضاً يشهد بما قلنا. ولسنا نخالف الشائع المطرد إلى ضرورة واستقباح إلا بأمر يدعو إلى ذلك، ولا ضرورة هنا. فنحن على ما يجب من لزوم الظاهر، ومخالفنا معتقد لما لا قياس يعضده. فقد صح بما قدمنا، أن كاف الجر تكون مرة اسماً، ومرة حرفاً. فإذا رأيتها في موضع تصلح فيه أن تكون اسماً، وأن تكون حرفاً، فجوز فيها الأمرين، وذلك كقولك: زيد كعمرو، فقد تصلح أن تكون الكاف هنا اسماً كقولك: زيد مثل عمرو، ويجوز أن تكون حرفاً كقولك: زيد من الكرام. فكما أن من حرف جر وقع خبراً عن المبتدأ، كذلك الكاف تصلح أن تكون حرف جر. فإذا قلت: أنت كزيد، وجعلت الكاف اسماً، فلا ضمير فيها، كما أنك إذا قلت: أنت مثل زيد فلا ضمير في مثل، كما لا ضمير في الأخ، ولا الابن، إذا قلت: أنت أخو زيد، وأنت ابن زيد. هذا قول أصحابنا، وإن كان قد أجاز بعض البغداديين أن يكون في هذا النحو الذي هو غير مشتق من الفعل ضمير، كما يكون في المشتق. فإذا جعلت الكاف في: أنت كزيد، حرفاً ففيها ضمير، كما تتضمن حروف الجر الضمير، إذا بانت عن الأفعال في نحو: زيد من الكرام. واعلم أنه كما جاز أن تجعل هذه الكاف فاعلة في بيت الأعشى وغيره، فكذلك يجوز أن تجعل مبتدأة، فنقول على هذا: كزيد جاءني، وأنت تريد: مثل زيد جاءني. فإن أدخلت إن على هذا، قلت: إن كبكر غلام لمحمد، فرفعت الغلام لأنه خبر إن، والكاف في موضع نصب لأنها اسم إن. وتقول: إذا جعلت الكاف حرفاً وخبراً مقدماً: إن كبكر أخاك. واعلم أن أقيس الوجهين في أنت كزيد، أن تكون الكاف حرفاً جاراً بمنزلة الباء واللام، لأنها مبنية مثلهما، ولأنها أيضاً على حرف واحد، ولا أصل لها في الثلاثة، فهي بالحروف أشبه. ولأن استعمالها حرفاً أكثر من استعمالها اسماً. هذا كلام ابن جني، وهو صريح في جواز اسميتها في الاختبار، خلاف ما نقل عن سيبويه. وإليه ذهب صاحب الكشاف أيضاً قال في: فأنفخ فيه: إن الضمير للكاف من كهيئة الطير، أي: فأنفخ في ذلك الشيء المماثل، فيصير كسائر الطيور. انتهى. وجميعهم امتنعوا فيما ذكرناه من جعل الكاف حرفاً تكون مع مجرورها صفة لمحذوف، لأن شرط جوازه أن يكون بعضاً من مجرور بمن وفي، نحو: منا ظعن، ومنا أقام. ولم يلتفت أبو علي في البغداديات إلى هذا الشرط، وخرجه على حذف الفاعل الموصوف، فقال: ولو قال قائل إن الكاف بمعنى الحرف الجار لم يكن مخطئاً، ويكون التقدير: ولن ينهى ذوي شطط شيء كالطعن، فحذف الموصوف، وأقام الصفة مقامه. ونظيره من التنزيل: ومن آياته يريكم البرق تقديره: ومن آياته أنه يريكم فيها البرق، فنصب الظرف على الاتساع نصب المفعول به، كأنه يريكموها البرق. مثل ويوماً شهدناه، ثم حذف الضمير. ونظير ذلك: وما الدهر إلا تارتان فمنهم *** أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح أي: منهما تارة أموت فيها، وأخرى أبتغي العيش. ومن هذا الباب قول أبي الحسن: قوله تعالى: {وجاؤوكم حصرت صدورهم ، أي: جاؤوكم قوماً حصرت صدورهم. فكذلك قوله: ولن ينهى ذوي شطط يحتمل أن يكون على هذا الذي وصفنا من حذف الموصوف، ولكن يدل على كونها اسماً في الشعر قول القائل: فصيروا مثل كعصف مأكول لأن الاسم لا يضاف إلى الحرف. وكذلك: وصاليات ككما يؤثفين تدل الكاف الأولى على أن الثانية اسم، إذ لا يدخل حرف خفض على مثله، انتهى كلامه. وقد رجع عنه في المسائل البصريات، وهذا نصه: لا تخلو الكاف من أن تكون اسم وحرفاً. لا يجوز أن تكون حرفاً، لأنك إن جعلتها حرفاً لزم أن تجعلها صفة لمحذوف، كأنك قلت: شيء كالطعن، والفاعل لا يحذف. ألا ترى إلى أن قول من قال: ضربني، وضربت زيداً، إن الفاعل منه محذوف، خطأ عندنا. وكذلك إن جعلت الكاف حرفاً كان وصفاً، وإذا صار وصفاً فالموصوف محذوف. وإذا جعلته وصف محذوف، بقي الفعل لبلا فاعل، وذلك غير جائز عندنا. فإذا كان كذلك جعلت الكاف نفسها فاعلة، وموضعها رفع، كما أن موضعها جر في قوله: ككما يؤثفين وكما أن موضعها جر في قوله: على كالقطا الجوني فإن قلت: فهلا حذفت المجرور في قوله: على كالقطا الجوني لأنه ليس بفاعل؟ قلنا: يفسد، كما يفسد حذف الفاعل، فإنك إذا حذفته قدرت الكاف وصفاً له، وإذا كانت وصفاً له كانت حرفاً، وإذا كانت حرفاً أدخلت حرف جر على حرف جر. وإذا كان كذلك لم يجز، فمن ثم لزمك أن تحكم بأن الكاف في قوله: على كالقطا اسم في موضع جر بعلى، كما أنها اسم في موضع رفع بأنها فاعلة في بيت الأعشى. انتهى كلامه. وعلى هذا مشى في التذكرة القصرية، وفي كتاب الشعر. ومن جميعه تعلم أن اسميتها عنده خاصة بالشعر، خلافاً لما نقل عنه. ومعنى البيت: لا يمنع الجائرين عن الجور مثل طعن نافذ إلى الجوف، يغيب فيه الزيت مع فتيلة الجراح. وتقدم الكلام عليه مفصلاً في الشاهد السادس والسبعين بعد السبعمائة. وأنشد بعده:
|